فصل: وقال تعالى بعد قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}:

يعني كفرهم وتعذيبهم للمؤمنين، في البلد الحرام والشهر الحرام، أعظم مأثما من القتل في الشهر الحرام، وأنه إذا كان يتوقع منهم مثل ذلك، وجب قتلهم في البلد الحرام وفي الشهر الحرام، وكذلك معنى قوله: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} فعلل القتال والقتل بهذا المعنى، وهذا يستوي فيه الحرم وغيره، والشهر الحرام وغيره.
وكذلك قاله الربيع بن أنس فإنه قال: قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} منسوخ بقوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
وقال قتادة: هو منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.، وقد نزل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في سورة براءة التوبة بعد سورة البقرة، والذي كان من خطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم الفتح، وقوله فيها: «إن اللّه تعالى حرم مكة» الحديث، نسخه ما بعده، وسورة براءة فإنها نزلت بعد ذلك بمدة.
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: الفتنة في قوله: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الشرك باللّه.
وقيل: إنما سمي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك كما تؤدي إليه الفتنة.

.قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} (191):

صفة مشركي قريش، فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم، فلا جرم لا تقبل الجزية من المشركين لقوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}- يعني كفر- {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}.
فمد القتال في حقهم إلى غاية وجود الإسلام، وفي حق أهل الكتاب إلى غاية وجود الجزية في قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} لأنهم إذا أعطوا الجزية حصلت منفعة المسلمين، إلا في حق من لا يقنع منه بالجزية لعظم جريمته.
وبنى الشافعي رحمه اللّه على ذلك جواز قتل النساء المرتدات، لعظم جرائمهن وكبر ذنوبهن، وأن ذلك لا يندفع بالاسترقاق ومنفعته، كما لا يندفع بالجزية، وليس إذا عدم القتال منهن فلا مصلحة في قتلهن، بل في قتلهن مصالح منها: منعهن عن إمداد الرجال بالأموال، وبالحث على القتال بإنشاد الأشعار المحركة لطباعهم، فإنه إذا حدث الحرب بالعرب أبرزن النساء باعثات على الحرب متناشدات بالأشعار، وذلك من أعظم الفتن، وترى الواحد منهم يقتل نفسه ويرد الأمان قائلا: بأن نساء الحي لا يتحدثن عني بالجزع في القتال وطلب الأمان.
ففي قتلهن على هذا الوجه مصالح عظيمة، وهل يقاتل أكثر الناس إلا ذبا عن النساء؟
غير أنهن إذا حصلن في السبي، فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وبعد فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
وليس يتوقع من القتال إلا أذية المسلمين، وذلك يحصل للمسلمين بما يصدر منهن وإن لم يباشرن القتال، ولم تكن فتنة فني بها خلق في الأكثر، إلا كان سببه أمور النساء، والذي كان من شؤم البسوس ورعيف حولا وغيرهما، مما نتج الحروب العظيمة وهيج الفتن الهائلة مشهور معروف.

.قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ} الآية (194):

روي عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلم: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: نعم، فأراد المشركين أن يغتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
- يغتروه: يأتوه على حين غرة.
يعني إذا استحلوا منكم فاستحلوا منهم مثله.
وروي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك، أن قريشا لما ردت رسول اللّه عام الحديبية- محرما في ذي القعدة- عن البلد الحرام فأعاده اللّه إليه في مثل ذلك الوقت فقضى عمرته، وأقصه لما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية، فيكون على هذا التقدير إخبارا بما أقصه اللّه تعالى من الشهر الحرام، الذي صده المشركون فيه عن البيت بشهر مثله في العام القابل، ويتضمن مع ذلك أمرا بالقتال.
فإن قيل: إنه إذا حمل اللفظ على حقيقة الجزاء انتفى كونه أمرا، فيقال:
يجوز أن يكون الإخبار حاصلا في تعويض اللّه تعالى نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام، الذي صده فيه المشركون عن البيت، بشهر مثله في العام القابل، وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات، فلذلك قال: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} ثم عقب ذلك بقوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} (194).
فأبان أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام، فعليهم أن يقاتلوهم فيه، وإن لم يجز الابتداء.
ويحتمل أن يكون الابتداء جزاء على ما كان من سابق فعلهم في مثل ذلك الوقت، ولا يكون قوله: {فَمَنِ اعْتَدى} لاستثناء وحكم، بل يكون معناه: فمن اعتدى في الماضي بهتك حرماتكم في الشهر الحرام في البلد الحرام فاعتدوا عليه الآن بمثل ما اعتدى عليكم في الماضي، فيكون ذلك إباحة للقتال مطلقا في كل موضع وفي كل وقت، ويحتج بذلك في مراعاة المماثلة في القصاص على ما يقوله الشافعي رحمه اللّه.

.قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية:

روى يزيد بن حبيب عن أسلم بن أبي عمران أنه قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه، لا إله إلا اللّه، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: سبحان اللّه، أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لما نصر اللّه تعالى نبيه، وأظهر دينه. قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل اللّه تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد.
قال الراوي: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل اللّه حتى دفن بالقسطنطينية، فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة، هو ترك الجهاد في سبيل اللّه، وأن الآية نزلت في ذلك.
وروى مثله عن ابن عباس، والحسن، وحذيفة، وقتادة، ومجاهد والضحاك.
وروي عن البراء بن عازب، أن الإلقاء باليد إلى التهلكة، هو اليأس من الرحمة بارتكاب المعاصي.
وقيل: هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما ينفق فيتلف.
وقيل: هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو.
وقال محمد بن الحسن في السير الكبير: لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده، لم يكن به بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل ما صنعه، فلا يبعد جوازه، لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فيتلف نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح اللّه به المؤمنين في قوله: {اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية..، إلى غيرها من آيات مدح اللّه بها من يذل نفسه للّه عز وجل.
وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء، قال اللّه تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وقد روي عكرمة عن ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال: «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله».
وروي أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال: «شر ما في رجل شحّ هالع، وجبن خالع».

.وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (196):

فالمنقول عن عمر وعلي وسعيد بن جبير وطاوس، أن الإتمام فيهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقال مجاهد: إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما، وذلك أشبه بالظاهر، ودل عليه ما بعده فإنه قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} والإحصار إنما يمنع الإتمام بعد الشروع، ويوجب ما استيسر من الهدى عند ذلك قد وجب الإتمام إجماعا، ويظهر أن مأخذ وجوبه هذه الآية، ولا فصل فيه بين الحج الأول والثاني، والعمرة الأولى والثانية.
قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية. ذكر بعض أهل اللغة أنه لا يقال في العدو {أحصرتم} وإنما يقال حصرتم، وهو كقوله حبسه إذا جعله في الحبس، وأحبسه أي عرضه للحبس، وقتله إذا أوقع به القتل، وأقتله إذا عرضه للقتل، وقبره إذا جعله في القبر، وأقبره عرضه للدفن في القبر، كذلك حصره حبسه وأوقع به الحصر، وأحصره عرضه للحصر.
فإذا كان كذلك، فالعدو إذا كان بعيدا منه على الطريق، فهذا هو التعريض للحصر، وهو متعرض به لأن ينحصر، وليس بمحصور في الحال ولا محبوسا، ولكنه معرض لذلك، فتقدير الآية: فإن عرضتم للحبس والمنع، وإن لم يلحقكم في الحال حصر ولا منع، وذلك إنما يكون بالعدو، أما المريض فقد احتبس عليه المضي في الحال، فليس هو معرضا بل هو محصور في الحال، وقد حصره المرض ولذلك قال ابن عباس ذهب الحصر الآن.
وكذلك نزلت هذه الآية في شأن الحديبية، وما كان من حصر إلا العدو ولا يجوز أن لا يذكر سبب النزول ويذكر غيره، مما يدل على العدو بطريق الاستنباط والدلالة.

.وقال تعالى بعد قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا}:

فلو كان المرض مذكورا في أول الآية، لم يذكر المرض بعده، وإذا ذكر المرض في أول الآية، وكان يحل بذلك الدم المذبوح في محله، لم يكن يحتاج إلى فدية.
ولا يجوز أن يكون المرض هاهنا هوام الرأس، فإنه ذكر ذلك بعد المرض فقال: {مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ}.
ولهم أن يقولوا: لعله أباح ذلك قبل أن يبلغ الهدى محله، إذا حلق للأذى والمرض، أو عنى به مرضا لا يمنعه من الوصول إلى البيت، وإلا فأي معنى لذكر المرض عند ذكر الإحلال، وحكمه عند عدم الإحلام يثبت؟
ويحتمل على موجب مذهب أبي حنيفة أن قوله: {فمن كان منكم مريضا} عائدا إلى أول الخطاب، كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} ثم عطف عليه قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي صددتم عن الإتمام، ثم عقب بقوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ}. يعني أيها المحرمون بالحج والعمرة، ليكون على هذا الرأي مثبتا حكم المريض، إذا صد عن الإتمام أن الذي يجب عليه ما استيسر من الهدي، وأنه إن لم يكن المريض ممنوعا من الإتمام، فحكمه كذلك، ليكون قد بين حكم المرض دون الإحصار، والمرض عند الإحصار.
فقيل لهم: فقد قال: {فَإِذا أَمِنْتُمْ} وذلك إنما يطلق على العدو لأن الأمن نقيض الخوف، ويقال في نقيض المرض الشفاء.
نعم قد يقال: أمن المرض وزال الخوف منه، ولكن لا يطلق اسم الأمن عليه غالبا.
وحكي عن ابن الزبير، أنه لا يتحلل بالعدو والمرض إلا بأن يلقى البيت ويطوف.
وقال ابن سيرين: الإحصار يكون من الحج دون العمرة، وذهب إلى أن العمرة غير مؤقتة وأنه لا يخشى الفوات.
والمذهبان مختلفان لنص الخبر عام الحديبية، فإنه عليه السلام تحلل من عمرته وكان محرما بها.

.قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} الآية (196):

زعموا أن مطلق المحل هو الحرم، لقوله عز وجل: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وقال في موضع آخر: {هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ} فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي، كما يجعل التتابع من صفات الصوم ولا خفاء بوجه الجواب عن هذا.
فقيل لهم: فقد قال اللّه تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فأجابوا بأن ذلك هو الدليل على أن المحل هو الحرم.
فقيل لهم: هو كذلك في غير المحصر وهو الأصل، فالإحصار عذر نادر، ودل قوله تعالى: {مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تحلل بذبح وقع في الحل.
فأجابوا بأن النبي عليه السلام ذبح في الحرم، ولكن لما حصل أدنى منع، جاز أن يقال: إنهم منعوا لمنعهم الهدي بديا قبل الصلح، كما وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام، وإن كانوا أطلقوا بعد ذلك، وقال سبحانه: {يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر.
وقد جوز مالك والشافعي وأبو حنيفة، ذبح هدي الإحصار في الحج متى شاء.
وأبو يوسف ومحمد والثوري لا يرون الذبح قبل يوم النحر، فكأنهم يقيسون الزمان على المكان، ويستدلون بقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} والمحل يقع على الوقت والمكان جميعا فكان عموما.
ولا شك أن اللّه تعالى ذكر العمرة أيضا، ووردت الآية في صلح الحديبية، وهدي العمرة لا يتأقت بزمان بالاتفاق.
ولهم أن يقولوا: في الآية ذكر الحج والعمرة، وذكر محل الهدي فهو عموم إلا ما خصه دليل الإجماع.
ونقول من طريق النظر: إن الإختصاص بمكان التحلل، يدل على الإختصاص بزمان التحلل، وزمان التحلل هو يوم النحر، وهذا على أصل أبي حنيفة لازم، أما الشافعي فإنه يعتبر معنى الحاجة في جواز ترك الزمان والمكان جميعا، نظرا إلى معنى الرخصة.
ولما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ظهر منه أنه إذا بلغ الهدي محله جاز الحلق، وليس فيه دليل على وجوبه، بل يجوز أن يكون استباحة المحظور الذي كان، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد.
وأبو يوسف يوجبه في رواية.
والذي لا يوجب الحلق يقول: إنه لما سقط عنه سائر المناسك التي لم يتعذر فعلها، مثل الوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، ولم يمكنه الوصول إلى البيت، ولا الوقوف بعرفة، فلا يلزمه الوقوف بالمزدلفة، ولا رمي الجمار مع إمكانهما، لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما، كذلك الحلق مرتب على أفعال أخر، لم يكن فعله قبلها نسكا.
وحجة أبي يوسف أنه صلى اللّه عليه وسلم: أمر بالحلق وترحم على المحلقين ثلاثا.
ويجاب عنه بأنه أمر وأعاد القول، لأنه أراد أن يتحللوا ويرجعوا وما كانوا يفعلون، لأنهم كانوا ينتظرون نزول القضاء، بأمر يمكنهم به الوصول إلى العمرة، ثم إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه، فلما رأوه كذلك، حلق بعضهم وقصر بعضهم، فدعا للمحلقين ثلاثا لمبالغتهم في متابعة رسول اللّه، ومسارعتهم إلى أمره.
ولما قيل له: يا رسول اللّه، دعوت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة؟
قال: لأنهم لم يشكوا، يعني أنهم لم يشكوا في أن الحلق أفضل من التقصير، واستحقوا الثواب للمتابعة.